حقيقة السحر
الــمفتـــي
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي
الســـــؤالما حقيقة السحر؟ وما مدى تأثيره على الناس؟
وهل سحر النبي صلى الله عليه وسلّم أم لا ؟ الـــجــــواببسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقبل كل شيء يجب علينا أن يكون في قرارة نفوسنا جميعاً أن هذا الكون بأسره سماءه وأرضه ، علويه وسفليه ، ملكه وملكوته ، ظاهره وباطنه ، روحه ومادته هو ملك لله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما في هذا الكون وكل من في هذا الكون إنما هو مملوك لله ، فلا يملك أحد لأحد نفعاً ولا ضرا ، لا يستطيع أحد مهما كان أن يحقق مصلحة لنفسه أو أن يدفع مضرة عن نفسه إلا بإذن الله سبحانه ، ولإن كان الحق تبارك وتعالى يخاطب خيرة رسله وصفوته من خلقه سيدنا محمداً عليه وعلى آله وصحبه عليه أفضل الصلاة والسلام فيقول له ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف : 188 ) ، فكيف بمن عداه صلى الله عليه وسلّم ، كيف يتصور الإنسان أن الخلق يملك بعضهم لبعض تحقيق منفعة لم يردها الله تبارك وتعالى ، أو دفع مضرة شاء الله تعالى وقوعها .
والآيات القرآنية تصل الإنسان بالله سبحانه وتعالى وتعرّفه أن الكون هو ملك لله ، وأن الإنسان هو مملوك لله فما عليه إلا أن يتجه بروحه وجسمه ، بعقله وقلبه ، بضميره وغرائزه ، بحواسه ومشاعره إلى الخالق العظيم سبحانه وتعالى ، يقول سبحانه وتعالى( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد : 16 ) ، ويقول سبحانه وتعالى( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ )( الزمر : 38 ) ، ويقول( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( فاطر : 2 ) ، ويقول سبحانه وتعالى ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) ( الأنعام : 17 ) ، ويقول ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( يونس : 107 ) .
كل ذلك من أجل أن تصفو عقيدة الإنسان ويخلص إيمانه ويتوجه بيقينه إلى ربه سبحانه وتعالى ، موقنا أن الخلق أجمعين لا يملكون شيئا من تحقيق المنافع ولا دفع المضار ، فلا يتعلق الإنسان بالجن ولا يتعلق بالشياطين ولا يتعلق بالسحرة ولا يتعلق بأي شيء ، إنما يتعلق بالله ، فإذا سأل فإنه يسأل ربه سبحانه ، وإذا دعا فإنه يتجه إلى بدعائه إلى الله تبارك وتعالى.
وهكذا علّم النبي صلى الله عليه وسلّم حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله ابن عباس- رضي الله عنهما- إذ قال له ( يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ، واعلم أن أهل السموات والأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك ) .
ولكن مع هذا فإن الله تعالى يبتلي بعض عباده ببعض ، ويبتلي بعض مخلوقاته ببعض لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى ، فهو يسلط من يشاء على من يشاء ، ويقي من يشاء شر من يشاء ، كل ذلك لأنه سبحانه وتعالى مدبر هذه الوجود ومصرفه ، ويفعل في خلقه ما يريد ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا تبديل لكلماته ، وذلك لابتلاء العباد عندما يبتلون بمثل هذه المواقف هل يصبرون أم يجزعون ، فإن الإنسان مجزي بصبره يجزى به خيرا عظيما ، وبشر الله سبحانه وتعالى الصابرين في آيات كثيرة منها قوله سبحانه وتعالى ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) ( البقرة : 155 ) ، ويقول تعالى ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( الزمر : 10 ) ، هذا لأجل أن يوطن الإنسان نفسه لجميع الشدائد التي يلقاها والمحن التي يكابدها والتي يواجهها حتى لا يجزع عند وقوع شيء من ذلك ، بل يكون أشد صلة بالله وأشد إيمان به سبحانه وتعالى .
والسحر الذي ذكر في القرآن الكريم إنما هو نوعان :
سحر تخيل ، بحيث يخيل الإنسان للإنسان ما ليس بواقع ، وهذا أمر معهود ، أنا شاهدته بنفسي ، كنت في الصين ورأيت كيف يتصرف الساحر فيخيل للناس أشياء غريبة ، رأيت قبل كل شيء أحداً من الناس جاء بورقة من الورق ولواها ، ثم أخذ يصب فيها حليبا ، وبعد حين نفض هذه الورقة وإذا بها بدلاً من أن ينسكب منها حليب يسقط منها منديل ، ثم بعد ذلك غطى على المنديل بشيء وبعد ذلك كشف هذا الغطاء فإذا ببطة كما تسمى هناك عندهم ببطة بكين تطير من هناك ، وهذا كله من السحر وليس هو من الحقيقة في شيء ، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في قصة موسى مع فرعون عندما قال ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى )( طه : 66 ) ، فالخيال هذا أمر واقع وهو مشاهد وكثير من الناس تحدث به.
والنوع الآخر الذي تحدث عنه القرآن الكريم هو السحر الذي يكون بإلقاء العداوات والكره في النفوس بحيث تكره نفس نفسا أخرى وهذا أيضاً يقع ، والله تبارك وتعالى يقول( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ )، ولكن مع هذا يقول ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ )( البقرة : 102 ) ، فهم لا يملكون أن يوقعوا المضرة إلا عندما يريد الله تبارك وتعالى وقوعها ابتلاء منه سبحانه وتعالى .
فالسحر لا ينفعل بنفسه وإنما ينفعل بأمر الله تعالى ، فإذاً هذان النوعان هما المذكوران ، أما ما شاع وذاع في أوساط الكثير من الناس من أن السحرة يأكلون لحوم البشر، وأنهم يخفون البشر ويظهرونهم للناس أنهم موتى ، وقد يخيل لبعض الناس أن فلاناً ميت وليس هو بميت وإنما أخفي من قبل الساحر ، ويخيل إليهم أنه يُغسل غسل الموتى والذي يُغسل هو جماد وليس ذلك الرجل الذي يخيل إليهم أنه مات ، فكل من ذلك لم يقع ، وكل من ذلك لم يدل عليه دليل قط لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا إنما هو من الأوهام والأساطير التي تعشش في الأدمغة المريضة ، والتي يروج لها في المجتمعات الساقطة ، المجتمعات التي شاع فيها الجهل وانحسر عنها العلم .
وأنا بنفسي تابعت قضيتين اثنتين ، قضية واحدة سمعت الكثير من الناس أن شاباً مات ودفن ووقف أبوه على قبره ودفنه بنفسه وواره في التراب ثم بعد سنين ظهر، وشاع ذلك حتى وجدت أحد المشايخ مع الأسف الشديد دوّن هذه القصة بقلمه ، وبعد هذا جاء أبو الشاب وأمه إليّ وذكرا أن ابنهما وجداه بعينه ، وأن كل العلامات التي كانت في ابنهما ظهرت في هذا الذي وُجد ولكن قالا بأنه استولى على عقله الساحر ، ولا يعترف بأبوة أبوه له وبأمومة أمه ، بل أصبح ينتمي إلى ذلك الساحر ، والقضية وصلت إلى الشرطة ، وإذا بي في نفس اليوم ألقى ذلك الشاب وقد كان هذا من قدر الله تعالى المقدور ، لقيته في عزاء وحضر أمامي وعُرضت علّي قضيته لأنه طلق امرأته وهو في حالة يرثى لها بسبب فقدانه الوعي والنباهة ، فسألت عنه أهو الذي يقال بأنه مسحور ؟ فقيل لي : نعم . وقد وصل الأمر إلى حد أن بعض الجهات الرسمية صدقت بهذا الأمر حتى قالوا في ذلك الذي يدعي أنه ابنه خذه إليك ، لما جاء به هو وامرأته من العلامات التي ظهرت فيه ، ولكن في نفس الوقت هنالك جماعة من الناس يشهدون بأن هذا ابن فلان وأنهم عرفوه منذ ولد إلى ذلك الوقت ، وابن خالته شخصية بارزة ، شخصية لها مكانة اجتماعية ومكانة سياسية في الدولة والمجتمع ، ولذلك كان وجود هذه الشخصية سببا للحيلولة دون هذا التصرف الأهوج .
فإذاً هذه القضية على أن أخواتها من القضايا إنما هي شبيهة بها ولا تخرج عنها ، وهنالك قضية أخرى روج لها ، أشيع عن رجل بأنه ظهر بعد سنين ، بعد اختفاء مدة طويلة ، وبعدما ظهر لأبويه أنه مات ، وجاء إلى المجتمع الذي مات الشاب الذي تقمصه بعد حين ، جاء إلى المجتمع وجاء إلى أم ذلك الشاب وقال أنا ابنك ، وأظهر لها العلامات التي تعرفها في ابنها ، وأخذ يحدثهم عن قصص ذلك الشاب وعن أخباره وماذا كان من أمره ، هذا الرجل رُوّج لقضيته هذه حتى جيء بصورته في بعض الصحف المحلية ونشرت قصته ، وصارت قصة شائعة تحدث عنها الصغير والكبير ، ثم تورط بعلاقة مع امرأة خائنة واتفق هو وإياها على التخلص من زوجها وفعلا وقع هذا التخلص ، قتلاه جميعا لأجل أن يتزوجها فيما بعد ، وبعد هذا كله القضية رصدت في الجهات الأمنية باسم ذلك الذي قالوا عنه بأنه مسحور ، باسم ذلك الشاب الذي توفي قبل سنين وكان قد غرر بأم ذلك الشاب وقال لها بأنه ابنها وصدقت كل تصديق ، وعندما عرضت القضية علينا في اللجنة الشرعية ، سألت هذا الرجل : ما اسمك الحقيقي ؟ فاعترف بكل الحقيقة ، وقال اسمي فلان ابن فلان الفلاني، وأبي هو فلان ابن فلان الفلاني ، وأمي فلانة بنت فلان الفلانية ، فاندهشت حتى تلك العاهرة التي شاطرته الجريمة، اندهشت منه ، وقالت له : ألا تقول بأن أمك فلانة ، قال : ليست بأمي ، ولكنني ابتليت بها ، فقلت له: بل هي التي ابتليت بك . والرجل اتضحت حقيقته قبل أن يُعدم ، ووضحت صورته كما هي ، وتبين أنه لعب بعقول الناس ، فإذاً كل هؤلاء إنما هم شياطين ، وهم يلعبون بعقول الناس ويجدون في المجتمع المنحط من يساندهم ، فعندما سألته من أخبرك بقصص ذلك الشاب الذي توفي قبل سنين حتى تقمصت شخصيته وأخذت تحكي قصصه التي تحكيها كأنك شاهد عيان وكأنك أنت صاحب هذه القصص التي تحكيها، حدثني بأن أخاه أي أخا ذلك الشاب من أبيه هو الذي علمه تاريخه جميعا وحفّظه إياه حتى استطاع أن يغرر الناس بما يحكيه منه ، فهكذا شأن هؤلاء .
أما السؤال عن سحر النبي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام فلا ريب أن ذلك مما ورد في الصحيحين وتقبله الكثير مع الأسف الشديد ، وتلقاه الكثير بالقبول ، ودوّن في الكتب ، ولكن عندما نرجع إلى التحقيق نجد أنه ليس كل ما ثبت سنده ثبت متنه ، فالروايات يجب أن تنقد من حيث المتون كما يجب أن تنقد من حيث الأسانيد ، فالنقد من حيث الإسناد لا يكفي .
ومما هو معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان معصوما ، وحالة السحر التي حُكيت حالة لا يمكن أن تصيب النبي صلى الله عليه وسلّم بحيث يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، يخيل إليه أنه يأتي نسائه وهو لا يفعل ذلك ، هذه حالة لا يمكن بحال من الأحوال أن تصيب المعصوم صلوات الله وسلامه عليه الذي ينزل عليه الوحي من عند الله لأن هذا مما يجعل المجرمين يشككون في الوحي ، لأن الوحي على هذا يكون غير مأمون أن يكون أصيب بما أصيب من التحريف من جراء هذا الذي يزعم هؤلاء الزاعمون أنه أصيب به النبي صلى الله عليه وسلّم ، ومن خلال ذلك روّج لقصة الغرانيق التي روّج لها المروجون وما هي من الحقيقة في شيء ، إنما هي خيال في خيال ، ولكن تلقفها المتلقفون وأظهروها في صورة مزوّقة تغري النفوس بقبولها وليست هي من الحقيقة في شيء ، فعلينا أن نوقن بأن الرسول صلى الله عليه وسلّم معصوم من عند الله ، وأن كل ما ينطق به إنما هو وحي من عند الله تعالى ، فلا يمكن أن يؤثر عليه سحر الساحرين ، كما لا يمكن أن تتدخل الشياطين في الوحي الموحى إليه من رب العالمين حتى يخيل للناس ما يمليه أولئك الشياطين أنه من جملة الوحي . والله تعالى المستعان .
ملاحظة: الموضوع منقول من موقع واحة الإيمان للفائدة.